فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {ولقد أوحي إليك} الآية، قالت فرقة: في الآية تقديم وتأخير كأنه قال: لقد أوحي إليك لئن اشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك، وقالت فرقة: الآية على وجهها، المعنى: ولقد أوحي إلى كل نبي لئن أشركت ليحبطن عملك. وحبط: معناه: بطل وسقط، وبهذه الآية بطلت أعمال المرتد من صلاته وحجه وغير ذلك.
{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} المكتوبة: نصب بقوله: {فاعبد}. وقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره} معناه: وما عظموا الله حق عظمته ولا وصفوه بصفاته، ولا نفوا عنه ما لا يليق به.
واختلف الناس في المعنى بالضمير في قوله: {قدروا} قال ابن عباس: نزل ذلك في كفار قريش الذين كانت هذه الآيات كلها محاورة لهم وردًا عليهم. وقالت فرقة: نزلت الآية في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله، فألحدوا وجسموا وأتوا كل تخليط، فنزلت الآية فيهم، وفي الحديث الصحيح: أنه جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليه، فقال له النبي عليه السلام حدثنا، فقال: إن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة جعل السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع، والماء الشجر على أصبع، وجمع الخلائق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقًا له، ثم قرأ هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: فرسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل بالآية، وقد كانت نزلت. وقوله في الحديث: تصديقًا له، أي في أنه لم يقل إلا ما رأى في كتب اليهود، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر المعنى، لأن التجسيم فيه ظاهر واليهود معروفون باعتقاده، ولا يحسنون حمله على تأويله من أن الأصبع عبارة عن القدرة، أو من أنها أصبع خلق يخلق لذلك، ويعضدها تنكير الأصبع.
وروى سعيد بن المسيب أن سبب نزول الآية أن طائفة من اليهود جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد، هذا الله خلق الأشياء، فمن خلق الله؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساورهم، ونزلت الآية في ذلك.
وقرأ جمهور الناس: {قدْره} بسكون الدال، وقرأ الأعمش: بفتح الدال. وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمرو وأبو نوفل: {وما قدّروا} بشد الدال {حق قدَره} بفتح الدال.
وقوله تعالى: {والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة} معناه: في قبضته. وقال ابن عمر ما معناه: أن الأرض في قبضة اليد الواحد، {والسماوات مطويات} باليمين الأخرى، لأنه كلتا يديه يمين، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: الأرض جميعًا قبضته، والسماوات وكل ذلك بيمينه.
وقرأ عيسى بن عمر: {مطوياتٍ} بكسر التاء المنونة، والناس على رفعها.
وعلى كل وجه، فاليمين هنا والقبضة وكل ما ورد: عبارة عن القدرة والقوة، وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل، وما ذهب إليه القاضي من أنها صفات زائدة على صفات الذات قول ضعيف، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحضنها العلم.
قال عز وجل: {سبحانه وتعالى عما يشركون}. أي هو منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به. ثم ذكر تعالى النفخ في الصور ليصعق الأحياء من أهل الدنيا والسماء، وفي بعض الأحاديث من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قبل هذه الصعقة الفزع ولم تتضمنها هذه الآية. و: صعق في هذه الآية معناه: خر ميتًا. و: {الصور} القرن، ولا يتصور هنا غير هذا، ومن يقول {الصور} جمع صورة، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث.
وقرأ قتادة: {في الصوَر} بفتح الواو، وهي جمع صورة.
وقوله: {إلا من شاء الله} قال السدي: استثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم أماتهم بعد هذه الحال، وروي ذلك عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: استثنى الأنبياء: وقال ابن جبير: استثنى الشهداء.
وقوله: {ثم نفخ فيه أخرى} هي نفخة البعث. وروي أن بين النفختين أربعين، لا يدري أبو هريرة سنة أو يومًا أو شهرًا أو ساعة. وباقي الآية بين.
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)} {أشرقت} معناه: أضاءت وعظم نورها، يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير: {أشرِقت} بضم الهمزة وكسر الراء على بناء الفعل للمفعول، وهذا إنما يترتب في فعل يتعدى، فهذا على أن يقال: أشرق البيت، وأشرقه السراج، فيكون الفعل متجاوزًا أو غير متجاوز بلفظ واحد كرجع ورجعته ووقف ووقفته، ومن المتعدي من ذلك يقال أشرقت الأرض: و: {الأرض} في هذه الآية: الأرض المبدلة من الأرض المعروفة.
وقوله: {بنور ربها} إضافة خلق إلى خالق، أي بنور الله تعالى، و: {الكتاب} كتاب حساب الخلائق، ووحده على اسم الجنس، لأن كل أحد له كتاب على حدة. وقالت فرقة: وضع اللوح المحفوظ، وهذا شاذ وليس فيه معنى التوعد وهو مقصد الآية.
وقوله: {وجيء بالنبيين} أي ليشهدوا على أممهم.
وقوله: {والشهداء} قيل هو جمع شاهد، والمراد أمة محمد الذين جعلهم الله شهداء على الناس. وقال السدي: {الشهداء} جمع شهيد في سبيل الله، وهذا أيضًا يزول عنه معنى التوعد، ويحتمل أن يريد بقوله: {والشهداء} الأنبياء أنفسهم، عطف الصفة على الصفة بالواو، كما تقول: جاء زيد الكريم والعاقل. وقال زيد بن أسلم: {الشهداء} الحفظة. والضمير في قوله: {بينهم} عائد على العالم بأجمعه. إذ الآية تدل عليهم. و: {لا يظلمون} معناه: لا يوضع شيء من أمورهم غير موضعه.
{ووفيت} معناه: جوزيت كملًا، وفي هذا وعيد صرح عنه قوله: {وهو أعلم بما يفعلون}. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} روي أنه قال للرسول عليه السلام: المشركون استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك، وغير منصوب بأعبد.
قال الأخفش: تأمروني ملغاة، وعنه أيضًا: أفغير نصب بتأمروني لا بأعبد، لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها، إذ الموصول منه حذف فرفع، كما في قوله:
ألا أيها ذا الزاجري احضر الوغى

والصلة مع الموصول في موضع النصب بدلًا منه، أي أفغير الله تأمرونني عبادته؟ والمعنى: أتأمرونني بعبادة غير الله؟ وقال الزمخشري: أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله: {تأمروني أعبد} لأنه في معنى تعبدون وتقولون لي: اعبده، وأفغير الله تقولون لي اعبد، فكذلك أفغير الله تقولون لي أن اعبده، وأفغير الله تأمروني أن أعبد.
والدليل على صحة هذا الوجه قراءات من قرأ أعبد بالنصب، يعني: بنصب الدال بإضمار أن.
وقرأ الجمهور: {تأمروني} بإدغام النون في نون الوقاية وسكون الياء؛ وفتحها ابن كثير.
وقرأ ابن عامر: {تأمرنني} ، بنونين على الأصل؛ ونافع: {تأمرني} بنون واحدة مكسورة وفتح الياء.
قال ابن عطية: وهذا على حذف النون الواحدة، وهي الموطئة لياء المتكلم، ولا يجوز حذف النون الأولى، وهو لحن، لأنها علامة رفع الفعل. انتهى.
وفي المسألة خلاف، منهم من يقول: المحذوفة نون الرفع، ومنهم من يقول: نون الوقاية، وليس بلحن، لأن التركيب متفق عليه، والخلاف جرى في أيهما حذف، ونختار أنها نون الرفع.
ولما كان الأمر بعبادة غير الله لا يصدر إلا من غبي جاهل، نادهم بالوصف المقتضي ذلك فقال: {أيها الجاهلون}.
ولما كان الإشراك مستحيلًا على من عصمه الله، وجب تأويل قوله: {لئن أشركت} أيها السامع، ومضى الخطاب على هذا التأويل.
ويدل على هذا التأويل أنه ليس براجع الخطاب للرسول، إفرادًا لخطاب في {لئن أشركت} إذ لو كان هو المخاطب، لكان التركيب: لئن أشركتما، فيشمل ضمير هو ضمير الذين من قبله، ويغلب الخطاب.
وقال الزمخشري: فإن قلت: المومى إليهم جماعة، فكيف قال: {لئن أشركت} على التوحيد؟ قلت معناه: لئن أوحى إليك، {لئن أشركت ليحبطن عملك} وإلى الذين من قبلك مثله، وأوحى إليك وإلى كل واحد منهم {لئن أشركت} كما تقول: كسانا حلة، أي كل واحد منا.
فإن قلت: كيف يصح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم؟ قلت: هو على سبيل الفرض والمحالات يصح فرضها ثم ذكر كلامًا يوقف عليه في كتابه.
ويستدل بهذه الآية على حبوط عمل المرتد من صلاة وغيرها.
وأوحى: مبني للمفعول، ويظهر أن الوحي هو هذه الجمل: من قوله: {لئن أشركت} إلى {من الخاسرين} وهذا لا يجوز على مذهب البصريين، لأن الجمل لا تكون فاعلة، فلا تقوم مقام الفاعل.
وقال مقاتل: أوحى إليك بالتوحيد، والتوحيد محذوف.
ثم قال: {لئن أشركت ليحبطن عملك} والخطاب للنبي عليه السلام خاصة. انتهى.
فيكون الذي أقيم مقام الفاعل هو الجار والمجرور، وهو إليك، وبالتوحيد فضلة يجوز حذفها لدلالة ما قبلها عليها.
وقرأ الجمهور: {ليحبطن} مبنيا للفاعل، {عملك} رفع به.
وقرئ: {ليحبطن} بالياء، من أحبط عمله بالنصب، أي ليحبطن الله عملك، أو الإشراك عملك.
وقرئ بالنون أي: لنحبطن عملك بالنصب، والجلالة منصوبة بقوله: فاعبد على حدّ قولهم: زيد فاضرب، وله تقرير في النحو وكيف دخلت هذه الفاء.
وقال الفراء: إن شئت نصبه بفعل مضمر قبله، كأنه يقدر: اعبد الله فاعبده.
وقال الزمخشري: {بل الله فاعبد} ردّ لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلًا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقدم المفعول عوضًا منه. انتهى.
ولا يكون تقدم المفعول عوضًا من الشرط لجواز أن يجيء: زيد فعمرًا اضرب.
فلو كان عوضًا، لم يجز الجمع بينهما.
{وكن من الشاكرين} لأنعمه التي أعظمها الهداية لدين الله.
وقرأ عيسى: {بل الله} بالرفع، والجمهور: بالنصب.
{وما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوه حق معرفته، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره، إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة.
وقرأ الأعمش: {حق قدره} بفتح الدال؛ وقرأ الحسن، وعيسى، وأبو نوفل، وأبو حيوة: {وما قدروا} بتشديد الدال، {حق قدره} بفتح الدال، أي ما عظموه حقيقة تعظيمه.
والضمير في {قدروا} ، قال ابن عباس: في كفار قريش، كانت هذه الآية كلها محاورة لهم وردًّا عليهم.
وقيل: نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله وجلاله، فألحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط.
وهذه الجملة مذكورة في الأنعام وفي الحج وهنا.
ولما أخبر أنهم ما عرفوه حق معرفته، نبههم على عظمته وجلاله شأنه على طريق التصوير والتخييل فقال: {والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويّات بيمينه}.
وقال الزمخشري: والغرض من هذا الكلام، إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعة تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز. انتهى.
ويعني: أو جهة مجاز معين، والإخبار: التصوير، والتخييل هو من المجاز.
وقال غيره: الأصل في الكلام حمله على حقيقته، فإن قام دليل منفصل على تعذر حمله عليها، تعين صرفه إلى المجاز.
فلفظ القبضة واليمين حقيقة في الجارحة، والدليل العقلي قائم على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى، فوجب الحمل على المجاز، وذلك أنه يقال: فلان في قبضة فلان، إذا كان تحت تدبيره وتسخيره، ومنه: {أو ما ملكت أيمانهم} فالمراد كونه مملوكًا لهم، وهذه الدار في يد فلان، وقبض فلان كذا، وصار في قبضته، يريدون خلوص ملكه، وهذا كله مجاز مستفيض مستعمل.
وقال ابن عطية: اليمين هنا والقبضة عبارة عن القدرة، وما اختلج في الصدر من غير ذلك باطل.
وما ذهب إليه القاضي، يعني ابن الطيب، من أنها صفات زائدة على صفات الذات، قول ضعيف، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحصها العلم.
قال عز وجل: {سبحانه وتعالى عما يشركون} أي منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به. انتهى.
وقال القفال: هذا كقول القائل: وما قدرني حق قدري، وأنا الذي فعلت كذا وكذا، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت، وجب أن لا تخطىء عن قدري ومنزلتي، ونظيره: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم} أي كيف تكفرون من هذه صفته وحال ملكه؟ فكذا هنا، {وما قدروا الله حق قدره} أي زعموا أن له شركاء، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى، مع أن الأرض والسموات في قبضة قدرته. انتهى.
{والأرض} أي والأرضون السبع، ولذلك أكد بقوله: {جميعًا} وعطف عليه {والسموات} وهو جمع، والموضع موضع تفخيم، فهو مقتض المبالغة.
والقبضة: المرة الواحدة من القبض، وبالضم: المقدار المقبوض بالكف، ويقال في المقدار: قبضته بالفتح، تسمية له بالقدر، فاحتمل هنا هذا المعنى.
واحتمل أن يراد المصدر على حذف مضاف، أي ذوات قبضة، أي يقبضهن قبضة واحدة، فالأرضون مع سعتها وبسطتها لا يبلغن إلا قبضة كف، وانتصب جميعًا على الحال.
قال الحوفي: والعامل في الحال ما دل عليه قبضته انتهى.
ولا يجوز أن يعمل فيه قبضته، سواء كان مصدرًا، أم أريد به المقدار.
وقال الزمخشري: ومع القصد إلى الجمع يعني في الأرض، وأنه أريد بها الجمع قال: وتأكيده بالجميع، أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء ذلك الخبر، ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضي كلهن. انتهى.
ولم يذكر العامل في الحال، ويوم القيامة معمول لقبضته.
وقرأ الحسن: {قبضته} بالنصب.